المدونات
ما لَم يُعَلّمني إياه أبي عن الشّطرنج!

ما لَم يُعَلّمني إياه أبي عن الشّطرنج!

0llm
| ٠

مُذ أن كُنتُ ضارباً في الصِغَّر، عَلّمَني وشارَكَني أبي لُعبة الشّطرنج على أنها رياضة الأذكياء، ومُتعةُ الملوكِ، واستراتيجياتُ حرب. تَعلَّمتُها على أنها حجارةٌ تَتَحركُ وِفقَ قوانين الرقعة متحدياً إيانا الآخر من يَكِشُ المَلِك، وكان شَرطي للفَوز -الّذي لَمْ أحصِلهُ في طفولتي الساذجة- يَتمَحوَرُ حَول إبقاء الوَزيرِ حياً، وأن أُحافِظَ على القَدرِ الأكبَر من القِطع مُتَناسِياً الهَدف الحقيقيّ المُتَمَحوّر حيثُ يَرقُد المَلك.

تَبَدلَت الأيام، وأدركتُ أنَّ حياتَنا ما هي إلا رُقعةُ شطرنجٍ مَحفوفةٌ بقوانينٍ ثابتة تُمَيّزُ المُحترف ممن يدَّعي الإحتراف. وما قَدرُنا إلا بيادقٌ نقاتِلُ على المُنتصف، أو مُحترفينَ نُحرك تلك البيادق ونُشارِكُ الرُقعةَ مع مَن يُجيد اللُّعبة، ويُشاركنا الطُموحَ والغاية.

فما دَور كُل منا في هذه الحياة، وماذا جَسَدت رُقعة الشّطرنج تمثيلاً لذلك!

١. المَلِكُ المُجَسِدُ لطُموحِنا على رُقعةِ الشَّطرنج، ثابتٌ في أرضه، لا يُقتل، وإنما يُحاصَرُ بأفكارِ ومُعتَقداتِ غَيرنا، وتضطَرِبُ الرُقعة لمُحاصرتِه. كِش مَلِك، قَد لا نَسمَعها إلا مِن مُنافس لنا في هذه الحياة، وفي الحقيقة، لا يكشف عيوب لَعِب الشّطرنج إلا منافسٌ فيها. كِش مَلِك هي بمثابة تنبيه لنا من اقتراب طموحنا؛ وما أن كَشَشْنا مَلِكَ الخَصمِ إذ يبدأ بالهَرَبِ، أو يَكِشُ مَلِكَنا، وهذا حالنا؛ نَسعى لِمناصِبِ غَيرنا، ونَنْسى قَدرَنا ونَخسَرُ كِلاهُما بالتعادُل.

٢. الوَزير: أكثر القِطَعِ حريةً وقيمةً بين القِطَع، وأكثَرُها تَعلُقاً باللّاعب، وأقَلُها تَضحية، فكُلُ الأوقاتِ وَقتُه وكل الأزمَان زَمانُه. فحياتُنا بَينَ حُريةٍ في الإعتِبار وتَعَلُقاتٍ زائفةٍ كعاداتٍ وتقاليدَ تعيدُ نفسَ الجَوابِ في كُلِ مَرة، ولا تَزولُ إلا أيانَ مُواجَهَتِها.

٣. الحِصانُ والفيل: حَيثُ المُراوغة، والخِداع، والهُجوم. حَيثُ الرَفيقانِ لا يُساعِدُ إحداهُما الآخر. فمُراوغة حِصان الشّطرنج تَعني نَقلَ مِحوَر المَعركة مِن مَنطقةٍ لأُخرى على الرقعة، كالتَنَقُلِ بَين مُجرياتِ الحياة. الفيلان (الرَفيقانِ) لِكُلٍ مِنهُما طَريقُهُ الحُر، وبغيابِ إحداهُما يَفقِدُ الآخر قيمته. تَميّزت رُقعةُ الشّطرنج بمُراوَغَتِها، على أنها مُربعةٌ بلَونين تَمنعُ فِيلا الشّطرنج من مُساعدةَ إياهما الآخر، ولكن ما إن أُديرَت الرُقعة لتُصبِح مَعينيّةَ الشَكلِ، أطولُ أمَداً للناظِر، وأكثِرُ تَدَرُجاً في ألوانها. الرُقعةُ ذاتُها لَمْ تتغير، ولكن زاوية جُلُوسِنا لَعِبَت دَوراً كبيراً في معطياتها!

٤. البيادِق، حيثُ نُثبِت أن الإرتِقاء والتَطور لَيس حِكراً على أحد، بَل إنه جزاءُ العمل. فالبيادِق هُم أكثَرُ حِجارة الشّطرنج تكراراً وأقَلُها حركة؛ فهم كُل مَن يُشارِكنا هذه الحياة؛ هُم أصدِقاؤنا، وزُملائِنا، وجيرانُنا، وتَجارُبنا؛ نَبدأ مَعَهُم حَياتَنا لستةِ خُطواتٍ ونُرَقيهم، فمنهُم من يَرتَقي، أو يُستَبدَل، ومِنهُم مَن لا يُكمِل الستة خطواتٍ أصلا. هُنا تَكمُنُ حِكمةُ الشّطرنج؛ فمِنَ المُستَحيلِ أن نَنتَصِر دونَ البيادق، قد نَضطَرُ للتضحية ببعضهم في سبيل ترقية الآخرين بإدراكِهم نِهاية الرُقعة، ولكِنَهُم يَبقونَ دائما سَبَباً لا يُنكَر ولا يُنتَقَص في صِياغَة حِصارِ المَلِك.

٥. القَلعَتَين، حَيثُ الحِكمةُ، والقوةُ، والنُفوذ. لَرُبَما اعتدتُ دائماً على تَحريكِ القَلعةِ في نهايّةِ اللُّعبة؛ عِندَ نفاذِ سُبُل التَعديلِ كخُطةٍ دفاعيّة، أو مُحاصَرة نهائيّة للمَلِك؛ وما كان ذلِك إلا لإيماني بأنها من أشدّ القِطَعِ رَهبةً وثباتاً على الرُقعة. وكذلك اعتدنا على اسناد ظهورنا في مُمارساتِنا الحَياتيّة على قِلاعٍ عدة، فمن وجهة نظري لكل تَجرُبة نَخوضُها قَلعةٌ مَخفيّة بِنفوذِها وحِكمَتِها تُنقِذُنا عند نهايتِها وتُعيدُ الحَياةَ لمجاريها. فعلى سبيل الذِكر، المُديرُ الماليّ هو قَلعَةُ المُحاسِب عند فَقدِه السَّيطرة.

تَستَمِرُ نِزالاتُ الشّطرنج على مُتعةِ الصِراعِ وتَحَدي أشَدِ الخُصومِ دهاءً وقوة، وحِصارِ صاحِب الدَوْرِ المَعدوم المُمَحوِر لهذه الرُقعة؛ المَلِك. المَلِك، إذْ لا معنى للرُقعة بدونه، يَبقى خَلفَ العَساكِر حتى يَئينَ أوانُ ظُهوره، وإن ظَهَرَ باكراً فما هو إلا ظُهورٌ مُؤقت يوعِد بانطِفائِه. كذلك حالُنا، فلِكُلٍ مِنا مَلِكُه وطُموحُه، كُلَما عَلا وارتفع صَعُبَ حِصارُه؛ واستمرت اللُّعبة شوقاً وحماساً. ويَومَ يُضَحي لاعِبُ الشّطرنج بالمَلِك، تنتهي اللُّعبة ولا شَيءَ يَخسَرُه بعد ذَلك، حتى وإن امتلأت الرُقعة بالقطع.

ففي الحَياة كَما في رُقعة الشّطرنج، نُناجي لأن نَكون لاعِبين خَلف الرُقعة نُحَركُ ما عليها حَسبَ دَواعي الحَياة، وتَبقى مُشاهدةُ المُباراة مَع مَن يُشارِكنا تَفاصيلَها مِن كَراسي المُشاهدين خيرٌ من كونِنا بَيدَق مُحاصَر على الرُقعة؛ فكل ما على الرُقعة يَنتهي حالُه بصَندوقٍ خَشَبي يَسبُتُ على أحَدِ أرفُف المَقهى. وتَبقى الحيرة المؤرقة، بِحِكمَةِ من اختَرَع لُعبة الشّطرنج، وبناها على أن البيادِق تَحمي الحَيوانات، والحَيوانات تَعود لتحمي البَشَر من جديد، لعله قَصَد رِسالة لَم تَصِلنا بَعد.

ولو عُدتَ للوراء، لَوجدتَ إلهاماً وتَوصيّة بينَ السُطور، لَيس بالصَريح، لكِنَهُ بالعَميق.